المادة    
هناك نماذج كثيرة تدل على أن الداعية المسلم لابد أن يتخلق بالخلق الكريم الصحيح المستقيم، الذي يجمع بين القوة في الحق، وبين الكرم والعفو والصفح وحسن الخلق في التعامل مع الناس فنقول: إن حال أهل الكتاب قد وقعت فيه هذه الأمة، ووقع فيه دعاتها، فقد أخذ بعض الناس حظاً مما ذكروا به ونسوا حظاً مما ذكروا به؛ فتجده أخذ العلم فقط، وأي إنسان يقلل من قيمة العلم؟! وهل عُبِد الله عز وجل إلا بالعلم؟! وهل دُعي إلى الله إلا بالعلم؟! يأتي داعية من الدعاة، فيأخذ العلم، والعلمَ وحده! وما عداه لا شيء، فيكون الهم والشأن في كل موقف: علم، حكم هذا حلال، هذا حرام، هذا ضعيف، هذا ثقة، هذا كذا؛ علم لا يشك فيه أحد، ولا يقلل من شأنه أحد، لكن تتجرد هذه الميزة العظيمة مع الزمن، ومع الاحتكاك، والممارسة، عن ميزة أخرى، وعن حظ آخر لهذا الدين فيُنسَى، فيكون الإنسان مفرطاً في ذلك وإن كان قد حفظ جانباً عظيماً من جوانب الدعوة. يأتي آخر فيقول: الدعوة، الجهد، بذل الجهد، الجهاد، الأمر بالمعروف، النهي عن المنكر، ويبذل الجهد وراء الجهد، وهذا حق، وأي مؤمن ينكر بذل الجهد والمجاهدة والدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟! لا ينكر ذلك مؤمن، بل هي من الدين وحظ عظيم من هذا الدين! ولكن يأخذها وحدها! وينسى جانب العلم! ويقول: ما الذي استفدنا من العلم والعلماء؟! الأول -الذي اشتغل بالعلم وحده- يقول: أي دعوة تصح أو تنجح بغير علم؟ ولكن لا يدعو، فكثير من الناس تعلم، وله شهادات، وتحقيق، ومؤلفات، ولكن أين أثره في المجتمع؟ أين دعوته؟ إذاً: لا خير في العلم ولا في أهله؟! فتكون الجفوة، وما سبب الجفوة؟ هل العلم ليس من الدين؟ هل العلم ليس من خلق الدعاة؟ وهل الدعوة ليست من صفات الداعية؟ الحقيقة أن التفرق والتنازع قد يقع، وقد وقع لما أن فُرِّق بين أمرين هما جانبان أو جزءان لحقيقة واحدة وأمر واحد، فكما أن القوة في الحق معها العفو والصفح والرفق، فكذلك العلم معه الدعوة، والدعوة معها العلم، فلا بد أن يتكاملا، فلا يصح أن يؤخذ نصيب أو حظ من الدين ويترك الحظ الآخر.
  1. تعامل الدعاة مع بعضهم

    ويؤسفني أن أقول: إن تعامل الدعاة مع بعضهم بعضا هو أسوأ من تعامل الدعاة مع المدعوين! بمعنى آخر: أن بعض الدعاة يعامل المدعوين بمعاملة حسنة ليجذبهم إلى دعوته، والآخر يفعل نفس الفعل ليجذبهم إلى دعوته؛ فإذا نظرت إلى خلق هذا الداعية مع ذلك الداعية، لوجدت العجب!
    ليس هناك من سبيل إلى اللين أو الرفق! ولماذا نقول: اللين والرفق؟! نقول: العدل، لأنه قد يفقد العدل بين الدعاة! وهذه حقيقة مؤلمة، ونحن نقولها لأننا في منبر دعوة ومع أناس يدعون إلى الله؛ فكلنا دعاة، وكلنا مدعوون لنكون أفضل أناس في الدعوة.
    أقول: من الوصايا العشر التي أنزلها الله تعالى على كل نبي، وهي في كل ملة ودين ((وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى))[الأنعام:152] نحن الآن نطالب الدعاة بالحلم، وبالصفح، وبالتجاوز، والواقع أن العدل قد يكون مفقوداً! الدرجة التي ليس وراءها إلا الظلم ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ))[المائدة:8] ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ)) [النساء:135] لا نجد القسط ولا العدل في تعاملنا نحن الدعاة مع بعضنا إذا نزغ الشيطان فيما بيننا بأي نازغ من النوازغ.
  2. قواعد لدرء التنازع بين الدعاة

    إن هذه النقطة وأهميتها تجعلني أقول: لا بد أن يراعي الدعاة أمرين؛ ولعل ذلك يعيننا على أن تكون أخلاقنا هي أخلاق الدعاة إلى الله، وأن تزول هذه الحالة السيئة التي هي واقعة بين الدعاة.
    الأمر الأول: أنه إذا كان كل منا على شعبة من الحق ومن الخير، فلا يجوز للآخر أن يغمط تلك الشعبة، لأنه على شعبة أخرى وعلى حظ آخر كما أشرنا، فلنعلم أن الدعاة إلى الإسلام الذين يدعون إلى الله على عقيدة صحيحة وعلى منهج سليم، لا يدخل في ذلك أهل البدع، ولا يدخل في ذلك أهل المناهج المنحرفة؛ ولكن نعني كل من يدعو إلى -الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ويرفع راية التوحيد، ويعتقد عقيدة السلف الصالح، ويتبع أهل السنة والجماعة؛ ولكن يقع بينه وبين أمثاله من التنازع أو الاختلاف في مناهج الدعوة ما يقع، فنقول: اعلم أنك على شعبة من الحق، وأن أخاك على شعبة أخرى، فلا تغمطْه حقه، ولا تغمط تلك الشعبة حقها؛ إن كنت على علم فهو على جهاد أو دعوة، وإن كنت أنت على جهاد فهو على علم.
    إن كنت على أمر من أمور الوعظ أو الحث على التقوى والتعلق بالآخرة وترك الدنيا، فهو على جانب بيان الأحكام من حلال وحرام وكلاكما على حق، وكلاكما تتكاملان، وما أحسنكما لو تتكاملان، فما أجمل ذلك! ولكن:
    ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها             كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه
    من الذي يضمن أن تكون له كل صفات الداعية الناجح؟! فنحن نسعى إلى ذلك، ونجتهد لكي نكون كذلك؛ لكن الواقع لابد من وجود هذه الفجوات؛ فإذا قدر الإنسان أنه على جانب من الحق، وأن أخاه على جانب آخر من الحق، وأن المنهج واحد، وأننا ندعو جميعاً إلى أمر واحد، فإن هذا يزيل كثيراً من الجفوة بين الدعاة، أو سوء الظن الواقع بينهم.
    الأمر الثاني: أن يعلم أن جانب الأسلوب في الدعوة أمر اجتهادي، وما اجتهاد أحد بمقدم على اجتهاد الآخر، وهذه قاعدة معروفة؛ فالإنسان حتى في صلاته لو اجتهد أن القبلة هاهنا، واجتهد الآخر أن القبلة هاهنا، لما جاز لأحد منهما أن يقلد الآخر، فليصل كل واحد حسب اجتهاده، وتقبل صلاته وتصح، ويؤجر عليها بحسب اجتهاده، ولكن إذا كان اجتهاده بأن القبلة هاهنا، وقلد الآخر مجرد تقليد، فإنه يكون قد صلى إلى غير القبلة.
    إذاً الأمر اجتهادي، ومعنى الأمر الاجتهادي أنني لا أجعل بيني وبينه الخصومة أو العداوة، بل أعذره ويعذرني؛ لأن الأمر فيه سعة، فإذا جئنا عند الدليل وعند النص، فلا كلام لأحد مع قول الله ومع قول رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا اجتهاد لأحد كائناً من كان مع صحة النص ومع قطعية دلالته.
    هكذا يجب أن نكون؛ لنرتقي بعد ذلك إلى الواجب الكمالي وهو أن نكون إخوة متحابين، متآلفين، متآخين؛ وإن كان كل منا يغلب عليه جانب معين نتيجة ما فطره الله عليه من الطبع، نتيجة ما يسره الله تبارك وتعالى في أمر دينه ودنياه، وكل ميسر لما خلق له، هذا من أهل الخطابة، وهذا من أهل التأليف، وهذا من أهل العبادة، وهذا من أهل الجهاد، وهذا من أهل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا من أهل العلم، وهذا من أهل الصبر، وهذا من أهل الزهد، وهكذا، وكلها أمور عظيمة، وكلها من أمور الدين، ولكن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ييسر كل إنسان لما يشاء من سبل الخير وطرائقه.
    ويجب أن يعرف كل إنسان من الطرفين أن هذا هو ما خلقه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عليه، وأن الإعذار فيما بيننا ضروري؛ لكي نكون أمةً واحدةً في مواجهة أهل البدعة، والشر والباطل.
  3. التعامل مع داعية فيه بدعة

    السؤال: كيف نتعامل نحن الدعاة مع داعية يدعو إلى الله، ولكن فيه بدعة أو فيه ضلالة أو من المصرين على البدعة، معاند، مكابر، ولا يريد الحق ولا يريد السنة ولا يريد المنهج الصحيح، هل نترك العدل أيضاً حتى في هذه الحالة؟
    الجواب: لا، نحن أمة لا تترك العدل على الإطلاق في أي موقف من المواقف! ومقتضى أمر الله ورسوله في هذه الحالة أن هذا الإنسان يعامل المعاملة الشرعية من الهجر، والزجر، والنهي عن مجالسته، إلى آخر ما يفصل في أحكام أهل الابتداع، لكن كيف يقع الخلل؟
    يقع عندما تطبق هذه الأحكام بغض النظر عن الواقع العام التي تعيشه الدعوة ككل!! كيف يكون هذا؟
    علينا أن نقدر بدعة هذا المبتدع وخطرها وضررها على الدين بالقدر الصحيح، ونقدر الأعداء الآخرين أيضاً كل بقدر بدعته، وبقدر خطره على الإسلام وعلى الدين، ونتعامل معهم بحسب تأثيرهم، وعلى قدر ضررهم بالإسلام تكون العداوة، أو نقول بالعكس: بحسب قربه من المنهج الصحيح أو من السنة، يكون القرب منه في الصفح، وفي العفو، وفي التعامل، وفي المودة، التي لا تعني بأي حال من الأحوال أن أجامله وأداهنه في الحق، هذه قاعدة ومعيار دقيق؛ فلا أجامل ولا أداهن في ديني فأكرم أهل البدع: [[ من وقر صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام ]] هكذا علمنا السلف الصالح؛ ولكن نقدر بدعته بضررها.
    مثلاً: بدعة الخوارج بدعة خطيرة شنيعة، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر بقتالهم، وقَتَلَهم الصحابة، لكن لما ظهرت بدعة الرافضة -غلاة الشيعة- حكموا بأن بدعة الرافضة أشد، وكذلك بدعة الجهمية أشد من بدعة المعتزلة.
    فيجب أن يكون حكمي على كل شيء بحسب خطره وبحسب ضرره، ونظرتي إليه لا بد أن تكون عادلة منصفة، فأضعه من العداوة في موضعه الصحيح بحسب قربه أو بعده، فأعداء الله الذين يحاربون الإسلام ليلَ نهار هم بلا شك أبعد مني وأبعد عن منهج السنة من داعية يدعو إلى الله، ولكن في دعوته بدعة من البدع، وصاحب البدعة هو أقرب ممن يدعو إلى الشرك الصريح -والعياذ بالله- هذا الذي لا لقاء معه أبداً؛ لكن مع ذلك كله لا مجاملة فيما نص عليه الشرع من معاملاتهم ولا تهاون فيه، ولكن في موضعها الصحيح الذي يجب أن تكون فيه، وكما كانت سيرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه.
    فلو كان الدعاة كذلك لانتفى ما نعانيه اليوم من اختلاف وتنازع؛ مرجعه في بعض الأحيان -إن لم يكن في أكثر الأحيان- إلى اختلاف وجهات النظر، وإلى اختلاف التربية، وإلى اختلاف الطباع، وإلى أمور ليست بالضرورة أن تكون سبباً لهذا الاختلاف، ولا سيما بين من يدعون إلى الكتاب والسنة بالجملة!! وإن كان فيهم من يكون قد قصر في علمها، أو فقهها، أو ما أشبه ذلك.
    وأيضاً نجد أن التهاون في أمر الله عز وجل وفي تطبيق سنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه في معاملة أهل البدع والضلال، وأعداء الدين من المنافقين أو الكافرين أن ذلك -أيضاً- مما يؤدي إلى الاختلاف؛ فبعضهم يضع اللين مع من يوجب الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أن يعامل بالقوة، وبعضهم يضع القوة مع من تكون الحكمة أن يعامل بالرفق وباللين، ولا بد أن نفرق بين الداعية إلى البدعة وهو رأس من رءوس الضلالة، وبين التابع الأعمى الذي لا يفقه شيئاً، فلابد أن نضع كل ذلك في حسباننا وأن نضعها في اعتبارنا، وأن تكون أخلاقنا مبنية ومؤسسة عليها.
  4. لا ننزل عن رتبة العدل

    أخلاق الداعية المسلم إن لم تكن على الكمال الذي هو كمال الحكمة، والذي هو القوة في موضعها، والعطف والحلم والصفح في المقابل الآخر، إن لم تكن كذلك فهي لا تنـزل عن درجة العدل، والعدل أن الإنسان لا يفعل الظلم بأن يضع أمراً أو حكماً في غير موضعه، ولا أن يدور على أي أحد من الناس كائناً من كان، بل يكون مثاله هو العدل؛ وفي ذلك امتحان للنفس الإنسانية، هل تعدل أم لا تعدل؟ فكما تبتلى بالواجبات أتؤديها أم لا؟ وفي صدقك في الدعوة، أتثبت أم لا؟ فأنت تمتحن بهذه المواقف ليرى أتعدل أم تجور وتحيد؟ واعلم أن الأمة التي لا يعدل بعضها مع بعض لن تعدل مع العالم، وأن الأمة التي لا تعدل مع العالم لن يستخلفها الله -تبارك وتعالى- في الأرض على هذا العالم أبداً؛ ولهذا نحن في مرحلة الاستضعاف إلى الآن؛ ومازلنا نفتقد العدل، فمن الحلم أن نعلم أننا سوف نصل إلى مرحلة الاستخلاف! والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد.